مفاجأة بعد الانتهاء من التحقيق حول "أحداث الشغب" التي حصلت على الشمس في الصيف الأخير
لم تنته خلافات البيئة في العام 2010 بنهاية مؤتمر «كانكون» للمناخ المنعقد أواخر تلك السنة، ولم تضع أوزارها حتى بعد نهاية السنة نفسها، وحاليا يستمر الخلاف على المكان الذي يحتله عام 2010 في قائمة السنوات الأشد حرارة منذ بداية تسجيلها. وقد نشرت بريطانيا ومجموعة من الفرق التي ترصد المناخ، تقريراً يقول ان العام 2010 حلّ في المرتبة الثانية بعد العام 1998، الذي سجل إحدى أشد الارتفاعات في حرارة الأرض. ولم تتطابق رؤية الأمم المتحدة مع هذه التقارير. وأصرّت على ان السنة المنصرمة هي الأشد حرارة على الإطلاق، واللافت أن الولايات المتحدة، التي يأخذ فيها الخلاف حول ظاهرة الاحتباس الحراري طابعاً حزبياً حاداً (الديموقراطيون يؤيدون وجودها وتفاقمها ودور الإنسان فيها، وينفيها الجمهوريون جملة وتفصيلاً)، مال مجتمعها العلمي لتأكيد اعتبار 2010 في المرتبة الأولى في قائمة الأعوام الأشد حرارة. ويزيد في حدّة الخلاف أن السنة المنصرمة شهدت موجة برودة هائلة، ضربت القسم الشمالي من الكرة الأرضية، إلى حدّ ان البعض تحدث عن عودة العافية الى جبال الجليد في القطب المتجمد الشمالي، بعد أعوام من الذوبان المتواصل!
في المقابل، ثمة إجماع على أن صيف العام 2010 سجّل درجات حرارة ملتهبة، تصدرت قائمة الأشد حرارة منذ بداية السجلات الحديثة.
صيف 2010 وثورة الشمس
أخيراً، انتهى تحليل آلاف البيانات التي أرسلها مسبار متخصص لـ «وكالة الـفضاء والطيران الأميركية» (ناسا)، هو «مرصد ديناميكية الشمس» SOLAR DYNAMIC OBSERVATORY، واختصاراً SDO، وتوأمه المسبار «ستيريو»، عن «الثوران العظيم» الذي ضرب نصف الشمـس بمجمله في غرّة الصيف الفائت. وخلال الصيف عينه، ظهرت وجهة نظر علمية تقول إن الحرارة القائظة فيه، ساهمت فيها متغيّرات في الشمس (أي كان للشمس دور في رفع حرارة الأرض)، إضافة إلى أثر الاحتباس الحراري ودورة الرياح في أعالي الغلاف الجوي. (انظر مقالات سابقة في «الحياة» حول هذا الموضوع، مثل «تسونامي يجتاح الشمس» في صـفحة علـوم وتكنولوجيا، 29 آب/ أغسطس 2010).
وفي منتصف صيف 2010، حدث اضطراب عظيم شمل نصف مساحة سطح الشمس، ولم يشهد مثله علماء الفلك في تاريخ وكالة «ناسا» إطلاقاً. فقد تشوّهت خطوط القوى المغناطيسية للشمس، وانفجرت ودفعت معها جسيمات ذرية متنوّعة إلى محيط الشمس البعيد، مع موجات من الصدم تسابقت عبر سطحها الواسع لمئات آلاف الكيلومترات. والمعروف أن قطر الشمس يبلغ قرابة مليون وأربعمئة ألف كيلومتر، وهو أربعة أضعاف المسافة التي تفصل الأرض عن القمر! وبذا، تطايرت بلايين الأطنان من سحب الغازات الحارة في الفضاء البعيد. وحينها أدرك الفلكيون أنهم شهدوا شيئاً عظيماً، بل ربما حطّم الأفكار القديمة حول النشاط الشمسي.
وتحدث كارل شريفر من «مختبر علوم الشمس والفلك» في شركة لوكهيد مارتن في بالوألتو في ولاية كاليفورنيا، عن ضخامة هذا الحدث، وقال: «هذا الحدث فتح أعيننا حقاً وبتنا نرى أن العواصف الشمسية يمكن أن تكون أحداثاً شاملة، وبإمكانها التأثير على مستويات لم نكن نتصورها من قبل».
وعمل شريفر بجهد مستمر، طوال الشهور الماضية، مع زميله آلان تايتِل المتخصص في دراسة فيزياء الشمس في الشركة المذكورة، لفهم ما حدث أثناء هذا «الثوران العظيم»، كما أسمياه. درسنا الكثير من البيانات، لأنه قد تم تسجيل هذا الحدث بتفصيل دقيق وغير مسبوق، بفضل المسبارين المذكورين.
وأعلن الباحثان نتائج تحليل الصور والبيانات أخيراً في مؤتمر صحافي عقداه في إطار اجتماع «الاتحاد الجيوفيزيائي الأميركي» American Association of Geophysicists في سان فرانسيسكو، بولاية كاليفورنيا.
وجاء في هذا المؤتمر: «إن الانفجارات على الشمس لم تكن حوادث محصورة أو معزولة كما في مرات سابقة. بدلاً من ذلك، بعث النشاط الشمسي بقوى مغناطيسية مترابطة عبر مسافات شاسعة (سارت في الاتجاهات كلها) على سطح الشمس. لقد ترافق هذا الحدث مع شواظات شمسية، وموجات مدّ هائلة (تسونامي في قلب الفرن النووي للشمس)، وقذف كبير لكتل ذرية صوب إكليل الشمس... انطلقت هذه الأشياء جميعها بفورة موحّدة، شملت مئات آلاف الأميال. لقد كان هذا الحدث الهائل أشبه بحفلة مذهلة من الفوضى الشديدة التعقيد». وفي شرحه الحدث، أضاف تايتل: «لم يعد بإمكاننا التركيز على المجالات المغناطيسية لمناطق ناشطة محدّدة بغية توقّع الانفجارات الشمسية، بل علينا عملياً ان نراقب الحقل المغناطيسي لسطح الشمس برمته. وهذا الكشف عن طبيعة الحدث وشموليته سوف يفرض زيادة في عبء العمل علينا كخبراء في الأرصاد الجوية الفضائية، ولكنه سوف يؤدّي أيضاً الى مزيدٍ من الدقة في توقعاتنا».
وعلّق رودني فيرن، وهو من العاملين في «مركز توقعات الطقس الفضائي» في شركة بولدر الأميركية، التابع لـ «الإدارة الوطنية لشؤون الجو والمحيطات» (نوا) National Oceanic and Atmospheric Administration بقوله: «النظرة الشاملة لثوران الشمس يمكن أن تؤدي إلى تحقيق اختراقات في توقّع النشاط الشمسي، وهذا من شأنه أن يوفّر توقعات أفضل لزبائننا، مثل مشغّلي شبكات الكهرباء الكبرى، وشركات الطيران التجارية، بحيث يمكنهم اتخاذ إجراءات لحماية أنظمتهم وضمان سلامة الركاب وطواقم الطائرات».
وفي مقال لهما، أُرسل الى مجلة البحوث الجيوفيزيائية (JGR)، استعرض شريفر وتايتل اندلاع «الثوران العظيم» في أكثر من 12 موجة صدم كبيرة، وانفجارات متوالية من موجات اللهيب الشمسي اللافح، وانبثاقات كبرى في خطوط الحقول المغناطيسية، ومقذوفات ذرية صوب التاج الشمسي. وقدّم المقال صورة فوّراة لهذا الحدث، استناداً إلى مسحٍ شامل غطى 180 درجة من خطوط الطول الشمسية وعلى امتداد 28 ساعة من الثوران فيها.
وبحسب مقدمة المقال، بدت الأمور لهما، في البداية، كأنها نشاز في المنظومة التي يراقبانها. ثم رسما هذه الحوادث على خارطة الحقل المغناطيسي الشمسي، فتأكّدا من الاضطراب الكبير الذي كان يضرب هذا النجم على امتداد نصف مساحته.
ووصف تايتل ساعات الثوران المدهشة قائلاً: «لقد رأينا كيف أن كل الحوادث المرتبطة بنشاطات الإكليل الشمسي كانت مترابطة على نطاق واسع، بل سارت وفق أنظمة متعددة من الفواصل والطبقات وفيالق المناطق المغناطيسية حيث التغيّرات الصغيرة في تيارات السحب الذرية بإمكانها أن تفجر عواصف كهرومغناطيسية هائلة».
ترابط مغناطيسي لاهب
لفترة طويلة، كان الباحثون يشكّكون بإمكان وجود هذا المستوى الشامل من الترابط المغناطيسي في الشمس فقد جاء في المقال الآنف الذكر: «في بعض الأحيان، رأى المراقبون شواظات شمسية تنفجر الواحدة تلو الآخرى، مثل حبات «فوشار» الذُّرَة. ولكن، كان من المستحيل أن يثبتوا وجود صلة بينها كلها. وكانت الآراء والنقاشات حول الأسباب والنتائج تنقصها الإحصاءات الرصدية الدقيقة، بل غالباً ما كان الشك حولها يتخطّى اليقين».
أما ليكا غوهاثاكورتا، الباحثة في برنامج «العيش بقرب نجم» في وكالة «ناسا»، فعبّرت عن الإنجاز الذي مثّله هذا الرصد الجديد بقولها: «للحصول على هذا النوع من العمل، فإن القمرين الاصطناعيين المخصّصين له، وهما «مرصد ديناميكية الشمس» وتوأمه «ستيريو»، قاما بما يشبه الألعاب التبادلية، مع العلم أن هاتين المركبتين الفضائيتين تقومان معاً برصد 97 في المئة من مساحة الشمس، ما يسمح للباحثين بمشاهدة الترابط بين النشاطات الشمسية التي كانت تخمّن في الماضي».
والجدير بالذكر، أن ثلثي ماجرى الصيف الماضي على الشمس، كان من الممكن رصده من الأرض، إضافة الى الرصد بعدسات القمرين الاصطناعيين المتخصصين، وأيضا فقد كشف «مرصد ديناميكية الشمس» بمسحه للمجال المغناطيسي الشمسي، عن ترابط مباشر بين مختلف مكوّنات الثوران العظيم، من دون الحاجة الى إحصاءات أومعطيات إضافية، بحسب ما جاء في المقال السابق نفسه. وقد ورد فيه أيضاً، على لسان شريفر، ما يلي: «لا يزال هناك الكثير الذي يتعيّن القيام به، ولا نزال نعمل على تظهير السبب والنتيجة وتحليل هذه الظاهرة. هل كان هذا الحدث سلسلة من ردود الفعل على حدث كبير محدد؟ هل حدثت تلك الأمور كلها معاً نتيجة تغيير كبير حصل للحقل المغناطيسي العام للشمس؟».
قد تنكشف الأمور الأساسية تحت مجهر التحليل المستفيض للمعطيات المتجمّعة في وكالة «ناسا». وحاليا لا يزال الفريق يُعمِل عقله مُفكّراً في الطابع العام للنشاط الشمسي الأخير، وبديهي القول ان دراسة الشمس استناداً الى بقعة شمسية وحيدة ولمرة مفردة، تكون أمراً محدوداً. وحول هذا الأمر أنهت غوهاثاكورتا رأيها قائلةً: «فورات الشمس ليست كلها شاملة، ولكن لم يعد من الممكن تجاهل الطابع الشامل للنشاط الشمسي، ولا تجاهل نتائجه وآثاره على الأرض».