الحياة والروح
الدكتور/ عبد الباسط محمد السيد
أستاذ الفيزياء الحيوية بالمركز القومى للبحوث
يقول الله سبحانه وتعالى " عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذى أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما
تشكرون " " سورة السجدة 6 – 9 " .
الروح غيرالحياة وكلاهمامن الغيبيات التى لا تدركهاالحواس ولاتخضع للتجربة والقياس ، والروح هى سر استمرار الحياة وامتدادها ، ولا يعلم حقيقةالحياة وحقيقة الروح الا الله سبحانه وتعالى ، فالله خلق الحياة وخلق الروح .. وقد خلق الله سبحانه وتعالى آدم من تراب ثم من طين ثم من صلصال ثم من حمأمسنون ، ثم سواه ، ولكنه لم يأمرالملائكة بالسجودله الا بعدأن نفخ فيه من روحه
" فاذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين "" الحجر 39 " .. فكان نفخ الروح فى هذا الجسد بمثابة خلق جديد له ، وتكريم خاص به ، وتمييز عن كثير من خلق الله .
" ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " ( الاسراء 70) .. ويتكرر خلق الانسان هكذا منذ خلق الله تعالى آدم وحتى قيام الساعة ، نفس المراحل من خلق ثم تسوية . ثم نفخ الروح ليبدأ خلقا آخر ، فالروح تحل فى الجنين الحى ، اذ أن الحياة فى الجنين سابقة على حلول الروح فيه، فالجنين يتكون من التقاء الحيوان المنوى الحى بالبويضة الحية .
والحياة موجودة فى الحيوان المنوى للذكر ، وفى البويضة الأنثى قبل أن يتم
التلاحق بينهما ، فالحيوان المنوى الحى لا يلقح ميته ، وكذلك البويضة الحية لا يلقحها حيوان ميت ، بل ان حيوية الحيوان المنوى لابد وأن تكون بدرجة عالية حتى يتم التلقيح وذلك أن الرجل حين يجتمع بالأنثى فانه يقذف اليها بمئات الملايين من الحيوانات المنوية ، التى تندفع رحلة وسباق الحياة نحو الهدف وهو البويضة ، ولا ينجح فى انهاء تلك الرحلة الا بضعة مئات فقط من الحيوانات ، حيث يستطيع حيوان منوى واحد منها فقط أن يخترق جدار البويضة ليتم التلقيح بينهما ، وعند ذلك لا يستطيع أى حيوان منوى آخر اختراق جدار البويضة ، ومن المعروف طبيا أنه ان قل عدد الحيوانات المنوية المقذوفة بواسطة الذكر أو ان زادت نسبة الحيوانات المنوية
الضعيفة أو الميتة فيها فان الحمل قد لا يتم ، ويفشل الزوجان فى الانجاب لهذا السبب كأحد أسباب العقم وعدم الانجاب .
وعندما يتم التلقيح بين الحيوان المنوى والبويضة ، يمشج كل منهما ما عنده من مادة الحمض النووى الموجودة على هيئة كروموسومات ، تحمل عناصر الصفات الموروثة مع ما عند الآخر من صبغات ، لتتكون بذلك خلية كاملة العدد من هذة الصبغات ، وذلك أن كلا من الحيوان المنوى والبويضة يحمل فى داخله نصف العدد المميز للخلية البشرية من الصبغات ، فالخلية العادية تحمل ستة وأربعين من الكروموسومات ، بينما يحمل الحيوان المنوى أو البويضة فقط ثلاثة وعشرين فردا من الكروموسومات وهكذا تتكون خلية جديدة هى النواة الأولى للجنين ، وهى " الزيجوت " الذى يستقر بعد ذلك بيوم أو أكثر فى " قرار مكين " ، وهو جدار الرحم .. لتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة من مراحل الانقسام الخلوى والتكاثر الخلوى والتخلق والتميز الى أنسجة ، ثم أجهزة وأعضاء ، حتى يكتمل تدريجيا المظهر العام الخارجى والتركيب
الداخلى للجنين الانسانى .. فمنذ الأسابيع الأولى تبدأ الأعضاء فى التكوين
مبتدئة على شكل براعم وتجمعات خلوية فى التميز تدريجيا ، لتصل فى
النهاية الى شكلها الطبيعى البشرى المميز ، وحتى الأسبوع السادس فاننا نجد أن الجنين ينمو طوليا بمعدل " ملليمتر " واحد كل أسبوع ، ليبدأ بعد ذلك النمو فى الاسراع ليصبح حوالى " ملليمتر " واحد كل يوم ، وبالطبع فان " ملليمتر " واحد زيادة فىالنمو الطولى يعنى اضافة ملايين الخلايا الجديدة لجسم هذا الجنين النامى .
ويلاحظ أن أعلى معدل للنمو يكون بعد نهاية الشهر الرابع من الحمل ، حيث تكون أجهزة الجسم قد أخذت تقريبا شكلها النهائى ، ويكون المظهر الخارجى مميزا للجنين البشرى ، فالوجه والأطراف والأصابع والأعضاء التناسلية قد أخذت جميعها الشكل البشرى المميز .. وخلال المرحلة السابقة يكون الجنين قد مر بمرحلة العلقة متعلقا بجدار الرحم مستمدا غذاءه من هذا الجدار بما فيه من أوعية دموية وأنسجة تتحول تدريجيا الى ( المشيمة ) وبعد ذلك يأخذ أشكالا تبينها الآية الكريمة :
( يا أيها الناس ان كنتم فى ريب من البعث فانا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر فى الأرحام ما نشاء الى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد الى أرذل العمر ) ( الحج 50 ) .
وفى آية أخرى يبين لنا القرآن الكريم مراحل التخلق داخل الرحم ، لكنه يضيف الى ذلك شيئا جدديا اذ يشير الى " خلق آخر " بعد أن تستكمل العظام نموها ويكسوها اللحم ، فيقول الحق تبارك وتعالى : " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ، ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين ، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقناالمضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله احسن الخالقين " ( المؤمنون – 12 ، 14 ) .
الروح وحياة الخلية
وعندما نقول ان الانسان جسد وحياة وروح ، فاننا فى واقع الأمر نستطيع أن نميز ثلاثة أشكال من الحياة ، فهناك " الحياة الخلوية " هى حياة الخلية الذاتية بكل مظاهرها ، وعملياتها الحيوية ، ثم بعد ذلك هناك " حياة الحسد " أو " الحياة العضوية " أى حياة الأعضاء ، حيث تتجمع ملايين الخلايا الحية فى نظام دقيق وتناسق تام للقيام بوظائف محدودة ، تمثل وظيفة ذلك العضو كالكلية أو القلب أو الكبد مثلا أو وظائف الجسد كوحدة متكاملة من الأعضاء والأجهزة .. والجسد الحى يتمتع بكل مظاهر الحياة من حركة واحساس وانفعال وتنفس وتغذية واخراج وتكاثر ، الخ وأخيرا ، فهناك بعد ذلك " الحياة الانسانية " حين تنفخ الروح فى ذلك الجسد الحى فتعطيه مقومات جديدة من قدرة على التعليم والتذكر والتفكير والاختيار والتعقل ، بالاضافة الى الاحساس بالزمن وفوق هذا كله فأن الروح تعطى هذا الجسد الحى قوة الاستمرار فى الحياة .
فى استمرار الحياة الخلوية وامتدادها ، وكذلك استمرار الحياة الجسدية
وامتدادها ، يرجع الى وجود الروح وهى لا تتجزأ ، فاذا فصلت خلية واحدة أو انفصل عدد من الخلايا أو عضو مثلا عن الجسد فأنه يفقد اتصاله بالروح وبذلك يفقد القدرة على الاستمرار فى الحياة فيسرع اليه الموت سريعا ، الا اذا أعيد اتصاله بجسده الأصلى أو تم توصيله بجسد يقبله فيتصل بالروح فى هذا الجسد ، وتعطيه القدرة على استمرار الحياة وامتدادها فالجزء المستأصل من جسد الانسان هو نسيج أو عضو حى ولكن بلا روح .
وتتميز الحياة الانسانية بوجود الروح ، فالروح لا تنفخ فى جسد ميت ، وانما
تنفخ فى جنين حى ، ولا يعلم الا الله كيفية نفخ الروح أو كيفية اتصالها بأجزاء الجسم وخلاياه ولا كيفية توفيها حين المنام أو خروجها حين الموت ، غير أنه يمكننا القول بأنه حين اليقظة وتمام الوعى ، يكون اتصال الروح بالجسم اتصالا كاملا وتاما ، بينما يتغير هذا الاتصال حين المنام وعند
الموت .
ومن المشاهدات والخبرات الطبية المتكررة ، توقف القلب والتنفس ووصول البدن ظاهريا الى حالة الموت ، ولكن عند محاولة انعاشه بالصدمات الكهربائية للقلب وبأجهزة الانعاش الأخرى تعود الى البدن حيويته ومظاهر الحياة من جديد ، وفى هذه الحالة لا يمكننا القول بأن الروح قد خرجت من البدن ، ولكن اختفت مظاهرالروح من وعى وادراك وعقل وغير ذلك ، ثم عاد اتصال الروح بالبدن تدريجيا الى سابق عهده مع زيادة قوة الحياة فى البدن حين تم انعاشه، غير انه فى كثير من تلك الحالات تفشل عمليات الانعاش تماما ، ولا تعود مظاهر الحياة الى الجسد ثانيةأى أن الروح تكون قد فارقت الجسد بخروجها منه تماما وانفصالها عنه ، ولا تعود اليه حتى لو أمكن الحصول على نوع من التنفس الصناعى ونبض القلب الصناعى أى على بعض مظاهر الحياة لفترات طويلة ، فقد فارقت الروح الجسد وخرجت منه خروج الموت ولا شك أن التفرقة بين هاتين الحالتين –أى بقاء اتصال الروح بالجسد وحالةخروجهامنه خروج الموت – من الاهمية بمكان ، وذلك لتقريرحدوث الوفاة بدلا من الاستمرار فى عمليات انعاش مستمرة ولا طائل ورائها غير شغل الأطباء والأجهزة المكلفة فى انعاش شخص ميت وقد يكون غير فى حاجة ماسة الى تلك الأجهزة .